• |

التراث العمراني بمحافظة الداير بني مالك

التراث العمراني في محافظة الداير بني مالك قديم قدم الإنسان في هذا المكان حيث استوطن الإنسان الأول الجزيرة العربية وقد ظهرت بعض الآثار في الجانب الإفريقي من البحر الأحمر في اثيوبيا وتنزانيا وكينيا أثبتت استيطان الإنسان فيها قبل ما يزيد على أحد عشر مليون عام .

وقد نشأت العمارة مبكرا منذ تحول الإنسان الأول إلى الزراعة وإنشائه مستعمرات سكنية لغرض السكن ثم تزايدت الحاجة الأمنية فبنى القرى والحصون التي توفر السكن والحماية معا .

وقد برع سكان جبال السروات في إنشاء الأبنية الحجرية وتوظيف مكونات البيئة الجبلية من صخور وأشجار ومواقع استراتيجية توفر الحماية الطبيعية مع الماء والتربة الغنية لتحقيق الأمن والثراء الاقتصادي .

ففي هذه البيئة غنىً بالشواهد العمرانية الشامخة من قرى حجرية ومدرجات زراعية مبنية بطرق هندسية مبهرة والتي لا تزال صامدة على مر العصور وتنعدم فيها الدراسات العلمية والأبحاث المتخصصة سوى اجتهادات محدودة في بعض الأماكن في شمال سلسلة جبال السروات ففي تيماء عثر على عظم بشري عمره تسعون ألف عام على ضفاف بحيرة تكونت قبل خمسمائة ألف عام وقد تعاضد في هذا الاكتشاف جامعة اكسفورد ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وجامعتي الملك سعود وحائل وأرامكو السعودية لكن هذا الاكتشاف لا يمثل حقيقة مكنوز هذه البيئة من التاريخ والآثار وخصوصا جنوبي المملكة فهي بحاجة لفرق عمل متخصصة للبحث عن الآثار المندرسة والحفاظ على الشواهد الحاضرة فهي الأجدر بأن تكون على لائحة التراث العالمي لليونسكو .

ومن القرى ذات الطابع التاريخي في محافظة الداير بني مالك قرى (قيار ـ ذراع الخطم ـ الثاهر ـ الخديعي ـ ريدة ـ القزعة ـ خدور ـ المسيجد ـ الخطام ـ الموفا ـ عثوان ـ العنقة ـ الشقيق ـ المسترب ـ العشة ـ الولجة ـ الثهير) وغيرها الكثير فلا يوجد واد أو جبل إلا ويحوي عددا من القرى والحصون الحجرية ولهذا تحوي محافظة الداير بني مالك أكبر تجمع للحصون الحجرية في العالم وهذا يدل على قدم الاستيطان والكثافة السكانية والتقدم الكبير في المجال العمراني والزراعي في تلك العصور .

وتعتمد تقنية البناء الحجري في هذه القرى على اختيار المواقع المحصنة طبيعيا والقريبة من مقومات الحياة الاقتصادية كموارد المياه والبيئة الزراعية ثم قطع الأحجار المناسبة من حيث المتانة والشكل القابل للبناء المتراص المحكم واستخدام جذوع الأشجار ذات الصلابة والتي لا تتأثر بعوامل الزمن ويتم إنشاء عدة مبان متجاورة أو متلاصقة بأدوار متعددة لعشرة أدوار بأشكالها المدورة والمربعة وأغراضها المتعددة من الحماية والسكن وخزن الحبوب وحفظ الماشية حيث يخصص الدور الأرضي غالبا للماشية ومعدات الحراثة والأدوار التي تليه لخزن الحبوب والغلات الزراعية ثم يكون السكن بمنافعه من غرف المعيشة والطبخ وغيرها حيث يقطن المبنى الواحد عدد من الأسر .

ولم تهمل في هذه القرى الجوانب التجميلية والتهوية والإضاءة ومراقبة الشمس والمواسم حيث صممت مبانيها من الخارج لتعطي الناظر تأثيرا بصريا جذابا وزيدت مشربيات فوق الأبواب وفتحات النوافذ الصغيرة المخصصة للتهوية والإضاءة كما أن دخول الشمس من هذه الفتحات ينبئ بدخول وتغير المواسم الزراعية وفي الأعلى مواقع المراقبة والحراسة العسكرية وفي التصاميم المتأخرة نسبيا يقسم السطح لقسمين أحدهما يعلى والآخر يستر بجدار لتمارس فيه الأعمال المنزلية اليومية.

ولم نستطع تحديد عمر هذه المباني الحجرية لعدم وجود المختص والأدوات المستخدمة في تحديد أعمار الصخور والآثار لكننا نستطيع إثبات وجودها في بعض الأدوار التاريخية لوجود كتابات ونقوش وأحداث تشير إليها أو رنوك وعلامات مثبتة عليها مما يجعلنا نجزم بوجود هذا البناء خلال تلك الحقبة لكننا لا نستطيع الحكم بأنه بني خلالها فقد يكون أقدم بكثير ولم نصل لشواهده بعد وسيكون البحث العلمي من قبل المختصين واستخدام التقنيات الحديثة في تحديد العصور التي بنيت فيها هو المرجع في ذلك .

ومن دلائل قدمها عدم وجود المساجد والجوامع ودور العبادة في تصاميمها الأساسية مما يعني أنها سابقة على الإسلام وكذلك وجود بعض التصاوير والرنوك تنتمي للعصر الحميري الأول والثاني وكذلك ورودها في الأخبار القديمة تصل إلى الألف الأول قبل الميلاد في بعض النقوش الثمودية واللحيانية والسبئية ولها حضور فيما بعد الميلاد في حملة الرومان على جنوبي الجزيرة العربية وأخبار الملك الحميري شمر يهرعش أما في العصور الإسلامية فأخبارها متعددة ومتناثرة خلال أحداث الدولة الزيدية والرسولية والدول التي قامت في تهامة وصولا إلى التاريخ المعاصر وأحداث الدولة الإدريسية والعهد السعودي الزاهر .

فهذا المكنوز التراثي العظيم جدير بالعناية والاهتمام والحفظ والترميم والتأهيل والاستثمار فهو ثروة تاريخية ووطنية لا تقدر بثمن وقد دأبت الأمم الحية على الحفاظ على التراث والآثار فهي امتداد لهذه الأمم وعمق لها ووسيلة للبقاء والتطور وعلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الالتفات الجاد لهذه الكنوز الغالية وعمل الخطط لتحويلها للملكيات العامة أو رعاية عقود استثمار طويلة الأجل وعمل المشاريع الاستثمارية في ترميمها وحفظها واستثمارها بمشاركة القطاع الخاص فهي رافد اقتصادي وعامل جذب سياحي ومحضن ترفيهي ومصدر دخل وفير يحقق التنوع في الاقتصاد الوطني وفق رؤية المملكة 2030 .

كما أن على الجامعات ومراكز البحوث ولا سيما جامعة جازان الفتية توجيه أبحاث الطلاب ورسائل الدراسات العليا في أقسامها المختصة نحو هذا التراث العمراني الوفير ودعوة الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية المختصة للمشاركة وقيادة التنقيب عن آثارها وتحديد عصورها فقد يكون فيها فتحا يفوق ما حدث في اثيوبيا وكينيا .

يحيى شريف المالكي

الكلمات الدلالية :

المشاركة السابقة

التعليقات ()

  1. لا تتوفر تعليقات بالوقت الحالي

برمجة وتصميم ATMC TECH