خليص... مدينة تتنفس التاريخ وتستعيد خطى الأنبياء

on
  • 2025-09-27 11:50:05
  • 0
  • 49

يوجد أماكن على الأرض تتنفس تاريخاً لا يعرفه إلا من يرخي المسامع لنسائمه، ولا يستمتع به إلا من يمعن النظر في حكاياته القديمة ومنها قصص المحطات التي رافقت تفاصيل الهجرة النبوية، ومن بين تلك المحطات مدينة خليص الواقعة في الشمال الغربي لمنطقة مكة المكرمة، والتي كانت حاضرة في كثير من المشاهد التاريخية، حيث كانت المدينة الضاربة في عمق التاريخ معلماً ومحطة لقوافل التجارة، وممراً للأنبياء.

ورغم أن خليص كانت حاضرة في عصور ما قبل الإسلام ويتغير اسمها مع اختلاف الأحداث، فإن ما زاد وهجها وقيمتها هو مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بها 9 مرات ذهاباً وإياباً، باستثناء رحلة الهجرة، لتروي لنا هذه المدينة كثيراً من القصص والمواقف للرسول الكريم.

الشواهد في خليص كثيرة؛ إذ يبرز وادي قديد، وخيمة أم معبد المعتمدان من هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة في مشروع «درب الهجرة النبوية» الهادف إلى تطوير المواقع التاريخية التي مر عليها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أثناء رحلة الهجرة لتكون متاحة لعموم المسلمين الراغبين في التعرف على تفاصيل الهجرة النبوية.

ولا تقف المدينة، عند هذين الموقعين المباركين، فهناك ثنية «غزال» الواقعة بين خليص وعسفان، والتي قال عنها الباحث في تاريخ المدينة، عبد الرحيم الصبحي، إن هذه الثنية تعد محطة بارزة، فقد ورد فيها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان في الكديد، عندما سأل عن اسم «الوادي»، قال له الصحابة: «هذا الوادي الأزرق»، فردّ النبي «كأَنّي أنظرُ إلى مُوسى عليه السّلام هابِطاً مِن الثنية، وله جؤار إلى اللهِ بالتلبية».

يقول الصبحي إنه بعد ثنية غزال تأتي منطقة «غران»، وكان يسكنها في تلك الحقبة بنو لحيان، وصارت مسرحاً لغزوة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بني لحيان، عندما سلموا عدداً من الصحابة إلى قريش بعد أن التقوا بالرسول عليه الصلاة والسلام في منطقة «ساية» في خليص، حيث كان يسكنها بني سليم، الحلفاء لبني لحيان، وهذه الواقعة كانت مع بداية الإسلام وهجرة الرسول الكريم إلى المدينة المنورة.

كديد، ومعناه المنطقة الواسعة، وقد شهدت 3 أحداث بارزة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقاً للصبحي، الذي أكد أنه في أثناء فتح مكة، وعندما قدم النبي في شهر رمضان من المدينة إلى الكديد، شكا له بعض الصحابة من العطش، فأخذ النبي القدح وشرب، وهو أول تطبيق عملي لسنة الإفطار في رمضان، فاقتدى به بعض الصحابة، أما البعض الآخر ففضّل إكمال الصيام، حتى وصلوا إلى «ذي غزال» حيث أفطر جميع أفراد الجيش وبقية الصحابة.

وتابع الصبحي، كديد كان يسكنها بنو ملوح، وهم موالون لقريش وآذوا النبي، فأرسل إليهم غالب الليثي، على سرية من جنود المسلمين لأخذ بعض من ماشيتهم، فلحق جمعاً من بني الملوح بسرية الليثي، يتبعونهم حتى وصلوا إلى منطقة يطلق عليها قديد، فأراد الله عز وجل أن يسيل الوادي ويفصل بينهم وبين الصحابة.

يعد جبل جمدان من الأثر المذكور في السنة النبوية، مع جبل أحد، وكان موقعاً لتثبيت الإيمان والذكر، ووصفه النبي أنه «سبق المفردون» أي الذاكرون لله كثيراً، كما أن هناك واقعة يسردها الصبحي، قائلاً بعد عقد صلح الحديبية مع قريش، استقر الصحابة بالقرب من الجبل، وقال النبي، من يصعد الجبل فندعو له، فقام أحد الصحابة ودعا الرسول له بالرحمة والمغفرة، وكان صعوده للتفقد وعدم وجود أي خطر من بني الملوح أو بني لحيان.

الطريق التاريخي بمحافظة خليص يأخذنا شمالاً إلى عين أبي بزيع، هذه العين ليست مجرد مصدر للماء، يقول الصبحي، بعد أن يغتسل القادمون إلى العين يشعرون بالراحة والطمأنينة، فيقولون: «تخلصنا» أي بعد المعاناة والصعاب التي مرّوا بها في الطريق الصحراوي، كما توجد رواية أخرى لتسمية المدينة بـ«خليص»؛ أن رجلاً كريماً اسمه خليص، كان يسكن بحصن في المنطقة، ويكرم الزائرين ويستقبلهم بالكرم والضيافة، فارتبط اسمه بالمكان وانتقل الاسم للمدينة.

بعدها تبرز ثنية لفت، ثم ثنية الجيش، وهي ثنية بارزة، مرّ بها 70 نبياً، كما يقول الصبحي، الذي أشار إلى وجود الأميال الحجرية، التي أُقيمت لتسهيل الطريق على المسافرين، والتي وضعها الخليفة أبو العباس السفاح نحو عام 143هـ بين مكة والمدينة، هذه المعالم الحجرية لا يزيد طولها على متر إلى مترين تقريباً، توضع على بعد ميل عن الآخر، كي لا يضل المسافر الطريق بين مكة والمدينة، وتحتضن خليص قرابة 32 معلماً حجرياً بعضها موجود حتى اليوم.

وقبل الخروج من المدينة يصادفك الوادي الأخرم، وهو الوادي الذي سار فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جيشه، وتقدّم فيه نحو بني سليم الذين أعلنوا إسلامهم وانضمامهم إلى الجيش، مؤكدين ولاءهم واتباعهم للإسلام. وبعد ذلك، ينتقل الطريق إلى ثنية المشلل، الواقعة حالياً في حي يُعرف باسم ملح، بالقرب منه موقع خيمة أم معبد، ومن بعد ذلك يتغير الاتجاه عن مسار الطريق الأصلي، مع استمرار الرحلة شمالاً نحو المدينة المنورة.

المصادر :

صحيفة الشرق الأوسط