قصر البياضية أو قصر "السقاف" معلم تاريخي شامخ بمكة المكرمة
on- 2025-09-23 14:55:45
- 0
- 58

تختزن شوارع مكة المكرمة أكثر مما تقول اللوحات الإرشادية، فما إن يترك العابرون حي "الجميزة" متجهين صوب حي المعابدة شمال شرقي المسجد الحرام حتى تحيط بهم على "شارع السقاف" أبنية طينية مذهّبة، تطلّ بين مساحات العمائر الحديثة، موارية خلف أسوارها أحداثاً وأزمنة وشخوصاً عابرة للتاريخ.
يتصل سياج حديدي عبر الشارع محيطاً بقصر البياضية كما تحتفظ به ذاكرة المؤرخين، أو "قصر السقاف" كما يطلق عليه شعبياً، بينما يقابله على الضفة الأخرى قصر الملك سعود (قصران متعامدان في عمارتهما وامتدادهما)، الذي كان يشكل طوقاً لحدود مكة الشرقية قبل ما يناهز مائتي عام، كما يوثق المؤرخ المكي سمير برقة.
يقع قصر السقاف في حي المعابدة شمال شرق مكة المكرمة، وهو معلم تاريخي هام، خدم أدوارًا إدارية متنوعة، واستضاف اجتماعات مهمة. كان للقصر دور محوري في بداية الدولة السعودية الثالثة، حيث شهد اتفاقيات وقرارات مهمة. ورغم انخفاض استخدامه منذ عام ١٩٨٠م بسبب عمليات النقل الحديثة، إلا أنه لا يزال معلمًا بارزًا يروي فصولًا من تاريخ مكة المكرمة والدولة السعودية.
قصر السقاف أو قصر الملك عبد العزيز هو قصر تاريخي، نزل به الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أثناء تأسيس المملكة العربية السعودية، واتخذه مقرًّا للإمارة وإدارة شؤون المواطنين.
يعود تاريخ بنائه إلى عام 1346هـ/ 1927م، وهو مشيَّد من الطين والحجارة على مساحة تقدر بنحو 2,500م2. وهو واحد من المباني التاريخية في مكة، حيث استُخدم مقرًّا لبعض الأنشطة الإدارية والديوانية، واحتضن عدة لقاءات جمعت شخصيات اجتماعية مختلفة.
وأصبح القصر مركزًا لإدارة شؤون الدولة، ومكانًا لاستقبال كبار الضيوف والوفود الرسمية، وشهد توقيع عددٍ من الاتفاقيات والقرارات المهمة في بدايات الدولة السعودية الثالثة.
مر القصر بعدة مراحل قبل أن يتحول إلى معلم تاريخي، فقد كان مقرا رسميا لاستقبال ضيوف الدولة في عهد المؤسس، واستخدم فيما بعد مقرًّا لرابطة العالم الإسلامي، ثم مقرا لشرطة مكة المكرمة، وفي فترة لاحقة كان الجزء الغربي من القصر مقرا لوزارة المالية.
وخلال العقود الأخيرة، ومع انتقال المقرات الرسمية إلى مبانٍ حديثة، قلّ استخدام القصر وظلّ معلمًا تاريخيًا بارزًا.
ومنذ أن شيد في بدايات القرن الرابع عشر الهجري، غدا القصر علامة مميزة في المشهد العمراني للمدينة المقدسة، حيث يعد موقعه القريب من المسجد الحرام ذا قيمة استثنائية، إذ كان ملتقى للزوار والوفود القادمين إلى مكة، ومكانًا يختصر صورة المدينة في كرمها وبساطتها وهيبتها، ولم يكن القصر مجرد جدران صامتة، بل مسرحا لصياغة قرارات وأحداث من تاريخ الدولة.
يعد القصر نموذجا رائدا في الأسلوب المعماري الإسلامي في مكة المكرمة، زينت واجهاته بالزخارف والنقوش الإسلامية، وهو عبارة عن سلسلة قصور، منها قصر البياضية وقصر السقاف، التي تم تطويرها وإعادة بنائها ضمن منظومة متكاملة للقصر الملكي الجديد.
ويتميز القصر بخصائصه المعمارية فهو ينتمي إلى الطراز المكي التقليدي الذي يجمع بين البساطة والهيبة، وقد استخدم البناؤون الحجر المحلي في الأساسات، والخشب المستورد من الهند وشرق أفريقيا في النوافذ والأبواب و الشناشيل، مما يعكس تواصل مكة التجاري والثقافي مع العالم الإسلامي، وتتوزع فراغاته الداخلية بما يراعي الخصوصية، مع مجالس واسعة للضيوف وأجنحة للسكن، إضافة إلى ساحات تسمح بالتهوية الطبيعية، أما الزخارف الجصية والأنماط الهندسية التي تزين جدرانه فتضفي لمسة جمالية تنسجم مع هوية مكة الروحية.
و ما يميز قصر السقاف أيضا كونه لم ينفصل يوما عن بيئته، وجزء من نسيجها العمراني يعكس في تصميمه القيم المرتبطة بمكة: الضيافة، والخصوصية، والبساطة الممزوجة بالجمال، ومجالسه الرحبة تجسد استعداد المدينة لاستقبال ضيوفها من كل بقاع الأرض، وزخارفه الإسلامية تؤكد عمق الهوية التي لا تنفصل عن قدسية المكان.
وقد أطلقت الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، عدة برامج لترميمه وإعادة تأهيله؛ بهدف الحفاظ على قيمته التاريخية ليبقى حيّا في وجدان أهل مكة وزوارها، ومنصة تحتضن المناسبات والفعاليات التي تذكر كل الأجيال بثراء مكة المعماري والاجتماعي والثقافي، وتأكيدا على الالتزام بالحفاظ على التراث الوطني.